
يشدد مدربو التنمية البشرية والإدارية وأصحاب الأعمال الناجحة على أن المرونة والقدرة على التكيف مع المتغيرات من السمات الرئيسية للبقاء، وأن النجاح لا يعود فقط للفهم العميق والتخطيط الدقيق والعمل المتفاني، بل إن إبداء المرونة والاستجابة للكوارث الطارئة بخطط بديلة يقود للتفوق على تلك الظروف الخارجية، عندها قد تنقلب تلك المحنة إلى منحة.
حملت سنة 2020 للبشرية فيروس “كورونا” المستجدّ المسبّب لمرض “كوفيد-19” COVID-19، وظل البشر يهوّنون من شأنه معتقدين أنه سينتهي حيث بدأ في “ووهان” وسط الصين، وأنه ليس أكثر من فرد جديد في عائلة “سارس” الذي ظهر في 2002 وانتهى.
لكن إعلان منظمة الصحة العالمية في 11 مارس مرض “كوفيد-19” وباءً عالمياً بعد تفشيه في أنحاء المعمورة، أيقظ الناس على كابوس لم تعش البشرية جمعاء تحت وطأته قبل ذلك؛ لقد فرض انتشار الوباء إغلاقا شبه شامل في سائر دول العالم؛ فلا سفر بين الدول، ولا مزاولة للأعمال، وقوانين تباعد اجتماعي صارمة، مما اضطر المؤسسات العامة والخاصة للتوقف القسري عن العمل باستثناء القطاعات الحيوية، وتسبب هذا بالتأكيد في انكماش اقتصادي وارتفاع مخيف في البطالة.
ورغم اقترابنا من ثلث عام 2020 الأخير فإن العلم المتطور لم يكتشف لقاحا للوباء ينقذ العالم من الشلل الاقتصادي الذي أصابه، ولا يلوح في الأفق أمل قريب بنجاح فكرة مناعة القطيع أي التطبع مع الفيروس واحتوائه بمناعة طبيعية تتولد في المجتمع، لقد باتت الحكومات بين فكي كماشة؛ فمن جهة لا بد من الإغلاق لوقف انتشار المرض حتى لا تنهار المنظومة الصحية، ومن جهة أخرى فإن الأزمة الاقتصادية لن تتوقف عند إفلاس الشركات بل تنذر بأزمات مالية غير مسبوقة تنهار بسببها دول.
والآن توجهت معظم الدول في العالم لإعادة فتح اقتصاداتها بشكل مقنن مراهنةً على وعي مواطنيها. وفقًا للعديد من الشركات فإن القضية الأكثر إلحاحا الآن هي إعادة الموظفين بأمان إلى مقرات وميادين أعمالهم.
إن الأمر ليس بهذه البساطه ولا يوجد نهج واحد وواضح يصلح للجميع، غير أن الواضح هو ضرورة قيام كل شركة بوضع خطة ذات هدفين: الأول ألا تتسبب العودة للعمل بإصابة العاملين أو العملاء بـ “كوفيد-19” وبالتالي زيادة نشر الوباء، وأما الهدف الثاني فهو المحافظة على صحة الشركة من الإفلاس والانهيار، ونحن هنا لا نتحدث عن تحقيق أرباح بل نتحدث عن تجنب خسائر.
في الفقرات التالية إضاءات مفيدة للقطاع الخاص في العودة الآمنة إلى العمل من جهة، والنجاح بتجاوز الأزمة بأقل خسائر ممكنة.
التحلي بالمرونة
يقولون: “تتعلم من الحياة فنونا كثيرة، لكن أهمها فن التحلي بالمرونة”، بشكل عام فقد عاشت البشرية الصدمة بالوباء، وردة الفعل بالإغلاق الذي أصاب العالم بالشلل، لكن الأنجح الآن هم الذين يتحلون بالمرونة في امتصاص الصدمة وإيجاد طريقة آمنة للعودة لأعمالهم وتجنب الانهيار.
الظهور كقدوة
“مكنزي وشركاؤه”(McKinsey & Company) هي شركة استشارات إدارية أمريكية، تعاملت بطريقة ملفتة للنظر أثناء انتشار مرض “كوفيد-19″، فقد أنشأت مركز استجابة للمرض COVID Response Center، يعمل على توعية المجتمع بشكل عام ومجتمع الأعمال على نحو خاص بثلاث قضايا:
- التقليل من آثار الوباء على الصحة العامة.
- التقليل من آثاره على الاقتصاد.
- التقليل من آثاره على حياة الناس.
وقامت بجمع دليل متخصص بتدابير السلامة اللازمة لإعادة افتتاح الأعمال أثناء الجائحة، وقد أتاحت هذا الدليل على موقعها واستفادت منه بالتأكيد الكثير من شرائح المجتمع.
لقد نجحت هذه الشركة في استثمار الأزمة لصالحها، فانتصبت كشركة قدوة في تحمل المسؤولية الاجتماعية، وهكذا فإن الشركة مهما كانت صغيرة فإنه يمكنها أن تنشر الوعي المجتمعي بهذا المرض، وأن تجعل من هذه الخدمة تسويقاً عملياً وعملاً دعائياً يشهر الشركة في إطار خدمتها للمجتمع.
استعادة السيطرة
إعادة العاملين وإعادة فتح الخدمة للعملاء لابد لها من دليل إرشادات سلامة لا يترك شيئا للصدفة، ويُشعر العملاء والعاملين في الوقت نفسه بأنه لا مساومة على صحتهم وسلامتهم، ويمكن تصميم هذه الإرشادات بما يتناسب مع وضع الشركة، وما يتماشى مع القوانين الحكومية المطبقة في هذه الجائحة، حيث يجب أن يظهر القطاع الخاص تعاونا كاملاً مع الجهات المسؤولة بهدف استعادة الشعور بالسيطرة على انتشار المرض من جهة، ومن جهة أخرى استعادة زمام العمل التجاري وخدمة الجمهور.
كسر السلسلة
يجب أن يسبق عودة العاملين إلى مقرات العمل وميادينه دورة إلكترونية سريعة تنتهي بحصولهم على شهادة بعد تثقيفهم وتوعيتهم بمرض “كوفيد-19” حول كيفية انتشاره وكيفية الوقاية منه ومحاولة السيطرة عليه، يغطي المساق سلسلة العدوى، وكيفية انتقال الأمراض المعدية، والحلقات الأضعف في السلسلة (كبار السن ومرضى الجهاز التنفسي) وكيفية كسر سلسلة العدوى من خلال إجراءات وقائية ملموسة. وهنا نؤكد بأن مثل هذه الدورة تعزز قيام الشركة بمسؤوليتها الاجتماعية.
بروتوكولات السلامة
قبل العودة لعالم الأعمال الواقعي فإن هناك الكثير من التفاصيل التي يجب أن يراعيها القائمون على الشركات ومن ذلك:
- إعداد مكان العمل بما يتناسب مع بروتوكولات السلامة والتباعد الاجتماعي.
- توفير دروع زجاجية أو بلاستيكية للموظفين الذين يواجهون الجمهور بكثرة.
- توفير الكمامات للموظفين، ووجود المعقمات ووسائل الحماية الأخرى.
- زيادة تنظيف الأسطح التي تتعرض للكثير من اللمس ودورات المياه.
- دخول محدود لغير الموظفين والمعنيين وأصحاب العلاقة المباشرة.
- تقسيم العمل إلى نوبات لتقليل الاحتكاك بين الموظفين.
- وجود جهاز قياس حرارة قبل دخول الموظفين والعملاء.
- تقليل الاحتكاك مع شؤون الموظفين بعمل فورمات إلكترونية لأي طلبات.
- الاستعداد دائما للعمل عن بعد، وهذا يستدعي الاستخدام الأمثل للتكنولوجيا والأمن السيبراني.
الموارد البشرية… إعادة نظر
لا شك بأن فيروس كورونا أحدث تغييرات هائلة على البشرية وواحد من التغييرات التي فرضها تمر بها حاليًا الموارد البشرية ومن المرجح أن تستمر لفترة طويلة بعد الجائحة.
يحتاج قسم الموارد البشرية إلى إعادة النظر في السياسات التقليدية ومكان العمل، وإدارة ردود الفعل المعقدة في عالم الأعمال بسبب فيروس كورونا، ويجب على هذا القسم التفكير في كيفية ضمان أمان وظيفي في المستقبل.
بخصوص مكان العمل فإنه يجب التحلي بالمرونة لتبني العمل عن بعد أو عبر وسيط افتراضي، وعلى الجانب المقابل إيجاد حلول لمخاطر الأداء المرتبطة بالعزلة، ومشاكل التواصل في العالم الافتراضي.
ربما يكون فيروس كورونا فرض على قسم الموارد البشرية كما فرض على غيرها التباعد الاجتماعي وبديله اجتماعات الفيديو، لكن يقع على عاتق هذا القسم القيام بأفضل الممارسات المهنية دون التخلي عن الانسانية في عمليات تسريح الموظفين ومتابعتهم دون تطفل.
قد يفرض التعامل الإنساني الرحيم مع القوى العاملة المتوسطة والدنيا، أن تقوم الموارد البشرية بتخفيض الرواتب الفلكية لأعضاء مجلس الإدارة والإدارة العليا للمحافظة على حقوق العاملين.
***
كان لوباء “كوفيد-19” تأثير لا يمحى على المجتمع الإنساني ككل وخصوصا عالم الأعمال. ولعل إعادة العاملين والعملاء إلى الوضع الطبيعي سيساعد اقتصاد العالم في التعافي.
قد تصبح بعض إجراءات السلامة التي فرضها المرض دائمة، وسيستمر التباعد الاجتماعي وستظل هذه التدابير في أماكن العمل ذات أهمية قصوى، لأنها وقاية من أي فرد جديد من عائلة فيروس كورونا.
إن من أهم الأقسام التي يقع عليها إعادة النظر في إدارة الأعمال في عصر كورونا وما بعده هو قسم الموارد البشرية، الذي عليه أن يوائم بين خسائر هذه الأزمة وعدم خسارة العنصر البشري من الناحية المادية أو النفسية.